الشيخ الغزي :
المعرفة الأصل بالنسبة لنا التي تخرجنا من حد الضلال إلى حد الهدى – هذا إذا كنا نعبأ بأمر ديننا – ونحن في أجوائنا الشيعية إذا أردنا أن نعبأ لديننا فإننا نعبأ لمحمد وآل محمد.. إذا ما رجعنا إلى ثقافة الكتاب والعترة فإن المعرفة الأولى والأخيرة هي معرفة إمام زماننا.
• أنتم تقرأون في زيارة آل ياسين هذه العبارات التي نخاطب بها إمام زماننا، وبعد أن نذكر أسماءهم الشريفة ونعلن عن عقيدتنا بهم واحدا واحدا إلى أن نصل إلى إمام زماننا فنقول: (وأشهد أنك حجة الله، أنتم الأول والآخر).
هذه الجملة تغنيني عن كثير من التفاصيل كي أبين أن المعرفة الأصل التي هي مدار هدايتنا وجوهر ديننا هي هذه المعرفة.. فالمعرفة الأصل هي معرفة محمد وآل محمد “صلوات الله وسلامه عليهم” وعنوانها الواضح والصريح : معرفة إمام زماننا الحجة بن الحسن.
هذا المضمون تتحدث عنه الزيارة الجامعة الكبيرة بشكل واضح في كل جهاتها، ولكنني سأقتطف بعضا من كلماتها مثالا كي أواصل حديثي.. هكذا نخاطبهم “صلوات الله وسلامه عليهم”:
(والحق معكم وفيكم ومنكم وإليكم وأنتم أهله ومعدنه وميراث النبوة عندكم، وإياب الخلق إليكم، وحسابهم عليكم، وفصل الخطاب عندكم، وآيات الله لديكم وعزائمه فيكم، ونوره وبرهانه عندكم، وأمره إليكم، من والاكم فقد والى الله، ومن عاداكم فقد عادى الله، ومن أحبكم فقد أحب الله، ومن أبغضكم فقد أبغض الله، ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله..)
هذا الكلام يأخذنا للارتباط بهم في كل الاتجاهات (في الاتجاهات المادية وفي الاتجاهات المعنوية، في ظواهر أمورنا وفي بواطنها، ما يرتبط بحراك عقولنا وقلوبنا ووجداننا وما يرتبط بنشاط حواسنا في كل الاتجاهات).
● وقفة عند كتاب [بصائر الدرجات] للشيخ محمد بن الحسن الصفار.
أورد الشيخ الصفار رسالة مهمة جدا كتبها الإمام الصادق بنفسه جوابا لأسئلة طرحها المفضل بن عمر في رسالة وجهها إلى الإمام عليه السلام.. فرسالة مكتوبة بخط الإمام الصادق موجهة إلى شخصية مهمة جدا : “المفضل بن عمر”.. والرسالة طويلة وطول الرسالة يكشف عن اهتمام الإمام الصادق بالموضوع.. الرسالة كتبت في أجواء حادة ومشحونة في الواقع الشيعي حيث بدأ الفكر الخطابي الذي ينتمي لأبي الخطاب وهي الفرقة المارقة النجسة التي عرفت بالفرقة الخطابية. مما جاء في رسالة الإمام الصادق للمفضل بن عمر يقول:
(ثم إني أخبرك أن الدين وأصل الدين هو رجل وذلك الرجل هو اليقين وهو الإيمان – لأنه الجهة التي وضعها الله تعالى لعباده – وهو إمام أمته وأهل زمانه فمن عرفه عرف الله ومن أنكره أنكر الله ودينه ومن جهله جهل الله ودينه وحدوده وشرائعه بغير ذلك الإمام كذلك جرى بأن معرفة الرجال دين الله).
هذه منظومة أصول الدين الخمسة إذا أردتم أن تتمسكوا بإمام زمانكم اطرحوها جانبا.. هذه لا علاقة لها بآل محمد.. هذه منظومة جاء بها مراجعنا من الأشاعرة والمعتزلة، فقط أضافوا إليها الإمامة وأضافوا إليها الإمامة أيضا في ضوء منطق المعتزلة بعيدا عن آل محمد.. فإذا أردتم أن تتمسكوا بمنهج الكتاب والعترة فهذا هو منطق الكتاب والعترة في كلمات صادق العترة.
• في صفحة 46 في كتاب [بصائر الدرجات]
يقول رسول الله “صلى الله عليه وآله”: (يا علي أنت أصل الدين ومنار الإيمان وغاية الهدى وقائد الغر المحجلين أشهد لك بذلك)
رسول الله يقول لأمير المؤمنين: “أشهد لك بذلك” ومراجعنا يقولون أن أصول الدين خمسة والذي شهد بذلك الأشاعرة والمعتزلة..!
هذه أحاديث الأئمة وهذه كتب أصحاب الأئمة، وهذه ثقافة الكتاب والعترة.
● وقفة عند كتاب [علل الشرائع] للشيخ الصدوق.. في بدايات الكتاب – الباب التاسع : علة خلق الخلق واختلاف أحوالهم.
(عن أبي عبد الله “عليه السلام” قال: خرج الحسين بن علي على أصحابه فقال: أيها الناس إن الله جل ذكره ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا بن رسول الله بأبي أنت وأمي فما معرفة الله؟ قال: معرفة أهل كل زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته..)
هذه هي المعرفة الأصل التي أتحدث عنها.. معرفة الله معرفة إمام زماننا، مثلما قرأنا في زيارة آل يا سين ونحن نخاطب إمام زماننا “صلوات الله وسلامه عليه”: (وأشهد أنك حجة الله، أنتم الأول والآخر).
هذه ثقافة العترة التي إذا ما تمسكنا بها فعلينا أن نجمع الهراء الذي كتبه مراجعنا في كتب علم الكلام وأن نلقي به بعيدا.. لأن المعرفة التي يجب علينا أن نحصلها هي هذه.. هذه ثقافة الكتاب والعترة.
تصوير الإمام بحدود أن يكون فقيها نعود إليه في معرفة الأحكام الدينية، والأنكى من هذا ما يذكره مراجعنا من أن الإمام المعصوم لا يمتلك ولاية تشريعية، أما الولاية التكوينية فإنهم يشككون فيها، وحتى الذين يثبتونها فإنهم يثبتونها بنحو تسطيحي إلى أبعد الحدود.
أنا هنا لا أريد أن أناقشهم، لكن المعرفة التي يتحدث عنها خطباء المنابر والتي ينقلونها من كتب المراجع والعلماء ما هي بالمعرفة التي تعتمد على هذه الأصول وعلى هذه القواعد التي أشرت إلى جانب منها مما جاء في الزيارة الجامعة الكبيرة أو ما جاء في زيارة آل ياسين الصادرة من الناحية المقدسة، أو ما جاء في رسالة إمامنا الصادق التي بعث بها إلى المفضل بن عمر، أو ما جاء مرويا عن سيد الشهداء بحسب ما نقل لنا الشيخ الصدوق عن إمامنا الصادق من أن معرفة الله هي معرفة إمام زماننا.
هذا الذوق وهذا الفهم وهذا المنطق يتعارض بدرجة كاملة مع منطق أن الإمام حاكم سياسي يسوس العباد في شؤونهم الدنيوية اليومية، ومن أننا قد ننال شفاعته في الآخرة بعد أن يأذن الله له في الشفاعة وكأن الله لم يعطه الولاية الكاملة (إن كان ذلك في الدنيا أو كان ذلك في الآخرة).
ما يطرح على المنابر وما يكتب في كتب المراجع وما يذكر في أجوبتهم على أسئلة الشيعة التي توجه إليهم.. هناك فارق كبير بين الإمام الذي تتحدث عنه العترة، وهذه نماذج من كلماتهم وأحاديثهم وبين الإمام الذي يتحدث عنه المراجع.
الإمام الذي يتحدث عنه مراجع وعلماء الشيعة هو شخص صالح عصمته قطعا ليست كاملة، لأنها في دائرة التبليغ فقط، فهو ينسى ويسهو كما يقول الشيخ الطوسي، وكما يقول السيد الخوئي، وكما يقول كثير من المراجع لكنهم لا يصرحون بذلك بشكل رسمي وإنما يتحدثون بذلك في مجالسهم وفي حلقاتهم الخاصة.
فالإمام الذي ترسمه كلمات المراجع وكتبهم ليس هو الإمام الذي ترسمه الزيارة الجامعة الكبيرة.. فارق كبير بين الإمامين.
• الإمام الذي تتحدث عنه الزيارة الجامعة الكبيرة إمام يذل له كل شيء في عالم التكوين والتشريع (وذل كل شيء لكم) إمام حساب الخلائق طرا من شؤون ولايته الواسعة التي لا حدود لها.. والحديث هنا ليس عن حساب في يوم القيامة، فالحساب على أنحاء، الحساب يجري في الدنيا وحتى قبل الدنيا.
إمام تخاطبه الزيارة الجامعة الكبيرة بأن إياب الخلق إليه وحساب الخلق عليه.. إمام تتحدث عنه الزيارة الجامعة الكبيرة من أن أمر الله بكله إليه (وأمره إليكم) إمام عصمته عصمة الله (ومن اعتصم بكم فقد اعتصم بالله) فهل يمكن أن تكون عصمة الإمام ناقصة في اتجاه من الاتجاهات ونحن نعتصم به ويكون اعتصامنا به اعتصمنا بالله..؟! أي هراء هذا..؟!
هل يمكن لإمام تكون ولايته ليست نافذة على جميع التكوين وعلى جميع التشريع وعلى كل شيء وتكون معرفته معرفة الله..؟!
● هذه الصورة التي ترسمها لنا بعض عبائر مناجاة العارفين المروية عن إمامنا السجاد “صلوات الله وسلامه عليه”:
(قد كشف الغطاء عن أبصارهم وانجلت ظلمة الريب عن عقائدهم وضمائرهم، وانتفت مخالجة الشك عن قلوبهم وسرائرهم، وانشرحت بتحقيق المعرفة صدورهم، وعلت لسبق السعادة في الزهادة هممهم، وعذب في معين المعاملة شربهم، وطاب في مجلس الأنس سرهم…)
هذه ليست تعابير إنشائية.. ربما نحن لا نستطيع أن نتلمس معانيها في حياتنا، لكن هذه حقيقة، لأن هذا المعنى ليس مذكورا في هذه المناجاة فقط، بل في كل الأدعية والمناجيات التي تصل أعدادها إلى المئات.. غاية الأمر أن هذا المضمون يعبر عنه في كل دعاء أو في كل مناجاة بحسب سياقها وموضوعها.
نحن لا نعرف طعما لهذه المعاني لأننا أساسا ما تذوقناها، ولا نعرف أحدا بهذه الصفة.
هذا الوصف الذي يأتي في هذه المناجاة لا يتحقق إلا مع مستوى حقيقي من معرفة إمام زماننا بالمستوى الذي تحدثت عنه كلمات الزيارة الجامعة الكبيرة، وما جاء في هذه الجملة الوجيزة في زيارة آل ياسين: “أنتم الأول والآخر”
إذا وصلنا إلى هذا المستوى بنحو حقيقي لا بنحو الإدعاء أو بنحو اللقلقة اللسانية أو بنحو تسطير المعلومات وتدبيج العبارات – كما أنا عليه الآن – فإن تسطير الكلام شيء وهذا الذي تتحدث عنه مناجاة العارفين شيء آخر.. القضية لا بصياغة الجمل وجمع الكلمات الفخمة كي أوهم المتلقي أن الحقيقة هنا في هذه العبارات، أو حينما أؤلف كتابا وأريد أن أشعر القارئ من أن الحقيقة الكاملة هنا.
الحقيقة الكاملة عند إمام زماننا، والذي يريد أن يستشرفها وأن يتواصل معها عليه أن يمتلك سببا لهذا التواصل، وسبب التواصل هذا هو المعرفة الصحيحة.. والمعرفة الصحيحة بحاجة إلى مصادر صحيحة وبحاجة إلى توفيق.
• البوابة التي إذا ما دخلنا إليها نكون آمنين ومطمئنين في سيرنا ومسيرنا باتجاه إمام زماننا، البوابة هو العباس “صلوات الله وسلامه عليه”.. كما نخاطبه في زيارته الشريفة: (جئتك يا بن أمير المؤمنين وافدا إليكم وقلبي مسلم لكم وتابع وأنا لكم تابع).
هذه المضامين قضية موجودة على طول الخط، سواء كنا في كربلاء أو خارج كربلاء، سواء كنا نخاطب العباس أو أننا أصلا ما خاطبنا العباس.
ليس ضروريا أن نخاطب العباس بهذا الخطاب، لكن الضروري أن نعرف هذه الحقيقة: أن العباس هو الباب المفتوح من قبل محمد وآل محمد ومن خلال هذا الباب الآمن نستطيع أن نسير باتجاه إمام زماننا {سيروا فيها ليالي وأياما آمنين} هذا الذي دعاني أن أحدثكم عن المعرفة الأصل وهي معرفة إمام زماننا بهذا المجمل الذي طرحته بين أيديكم، وإلا فإن هذا الموضوع موضوع كبير جدا.
مقطع من برنامج اطلالة على هالة القمر – الحلقة (12)
قناة القمر الفضائية 26 صفر 1440هـ الموافق: 5/11/2018
شاهد الحلقة كاملة:
أضف تعليقك